أخبار الجامعة الأردنية - الأستاذ الدكتور فالح السواعير
  • 21 - May
  • 2025

المجموعات البحثية في الجامعة الأردنية :حين يتحول البحث العلمي إلى رسالة وطنية

​​​

المجموعات البحثية في الجامعة الأردنية :حين يتحول البحث  العلمي إلى رسالة وطنية​

الأستاذ الدكتور فالح السواعير
نائب رئيس الجامعة الأردنية لشؤون التصنيف والاعتماد الدولي

​في زمنٍ تُقاس فيه قوة الدول بقدرتها على إنتاج المعرفة وتوجيهها نحو التنمية المستدامة، لم تعد الأبحاث العلمية ترفًا ولا التميز الفردي كافيًا. ينفق العالم اليوم أكثر من  2.8 تريليون دولار سنويًا على البحث والتطوير، وتتصدر الدول التي تستثمر بفعالية في منظوماتها البحثية قوائم الابتكار والتأثير؛ إذ تحصد الولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي معًا أكثر من  76%من  هذا الإنفاق. 

لقد أثبتت التجارب العالمية أن التقدّم الحقيقي يُقاس بمدى ارتباط البحث العلمي بأولويات الدول واحتياجات مجتمعاتها. فعندما يُمنح البحث العلمي مكانته في التخطيط الوطني ويحظى بالدعم والتمويل الكافي، يصبح أداة استراتيجية للتنمية. وتشير تقارير اليونسكو إلى أن الدول التي تستثمر أكثر من 1% من ناتجها المحلي الإجمالي في البحث العلمي – وهي نسبة بلغت أو تجاوزت 3% في 12 دولة حول العالم – تحقق مستويات أعلى من الابتكار، وتُسجل تقدمًا ملحوظًا في مسارات النمو الاقتصادي والاجتماعي المستدام. والأردن، بما يواجهه من تحديات اقتصادية وبيئية وتنموية، لا يستطيع أن يحقق طموحاته دون أن يستثمر في عقول أبنائه وباحثيه، ويوجّه طاقتهم نحو البحث الذي يُلامس حاجات الناس.

في خضم التنافس العالمي المحموم، أيقنت الجامعة الأردنية، إدارةً وباحثين، أن المعرفة الحقيقية لا تولد في معزل عن محيطها، وأن التقدّم لا يتحقق بتراكم الأوراق العلمية، بل بتكامل العقول، وبناء الشراكات، وتوحيد الجهود حول ما يمسّ الوطن من تحديات وطموحات. فبادرت إلى إطلاق مشروع استراتيجي: مبادرة المجموعات البحثية. ليست الفكرة تجميعًا شكليًا للباحثين، بل هي توجه استراتيجي نحو العمل البحثي الجماعي المنظم، الذي يجمع التخصصات المختلفة تحت مظلة واحدة، من العلوم الطبية، والطبيعية، والهندسية، وتكنلوجيا المعلومات، إلى العلوم الاجتماعية والإنسانية، لتتآزر في طرح الأسئلة الكبرى، وتُنتج المعرفة القادرة على فهم الواقع والأهم من ذلك ...التغيير. كيف ننتج معرفة أصيلة تسهم في مواجهة تحديات الأردن؟ من شح المياه وتغير المناخ والزراعة المستدامة والذكاء الاصطناعي، إلى الطاقة المتجددة، وصحة المواطن وجودة تعليمه، وانتهاءً إلى بناء اقتصاد يقوم على الابتكار والإنتاج المعرفي.

خلال عامين فقط، أطلقت الجامعة أكثر من 100 مجموعة بحثية، ضمّت في عضويتها ما يزيد عن 900 باحث وباحثة من الجامعة، ومن جامعات أردنية وعالمية مرموقة، إلى جانب ممثلين عن القطاعين العام والخاص، في نموذج شراكة علمية عابر للتخصصات والمؤسسات. 

وقد حرصت الجامعة على ألّا تكون هذه المبادرة مجرّد قرار إداري أو خطوة تنظيمية، بل مشروعًا تحويليًا يخضع منذ انطلاقه لمراحل تقييم دقيقة ومعمّقة. فعلى مدى شهور، تنعقد جلسات تشاورية مع كل مجموعة مقترحة، لمراجعة الرؤية والخط البحثي، والتأكد من استيفاء المعايير الأساسية، بدءًا من تكامل التخصصات وتنوع الخلفيات، مرورًا بالشراكات مع القطاعين العام والخاص، وانتهاءً بالانفتاح على بُعد دولي فاعل، والأهم: إدراك الباحثين للدور الحاسم للبحث العلمي في تطوير القطاعات الحيوية في الأردن، وربطه بخطط تنفيذية قابلة للقياس والنهوض. 

ولتجسيد هذه الرؤية، وفّرت الجامعة للمجموعات منصات رقمية متقدمة، تحتوي على كافة البيانات المتعلقة بتخصص المجموعة وخطتها وأعضائها، بالإضافة إلى مسارات واضحة للدعم والتحفيز والتمويل. كما تُقيَّم المجموعات بعد تشكيلها بناءً على مؤشرات أداء واضحة، مثل عدد المشاريع الممولة خارجيًا، والنشر في المجلات الأكثر تأثيرا في المجال، ومعايير الاستدامة، والأهم: مدى مساهمة كل مجموعة في تطوير السياسات الوطنية ومعالجة التحديات التنموية. 

إن ربط المجموعات البحثية بالأولويات الوطنية لا يمكن أن يكون مجرد شعارات، بل يتطلب قراءة دقيقة لواقع القطاعات المختلفة في الأردن. فمثلًا، يعاني قطاع المياه من أحد أعلى مؤشرات الشح المائي عالميًا، إذ لا تتجاوز حصة الفرد السنوية 90 مترًا مكعبًا، مقارنة بالحدّ الأدنى للفقر المائي البالغ 500 متر مكعب، وهو ما يجعل المجموعات البحثية في الجامعة التي تُعنى بالبحث لتطوير تقنيات لإعادة استخدام المياه الرمادية، وتحسين كفاءة استخدام المياه في الزراعة، واستكشاف مصادر مائية بديلة، وتحلية المياه بالطاقة المتجددة، وتقنيات الحصاد المائي، ضرورة استراتيجية. أما في الزراعة، فرغم أن القطاع لا يساهم بأكثر من 5% من الناتج المحلي الإجمالي، إلا أنه يوفر فرص عمل هامة في المناطق الريفية. ومع تهديدات التغير المناخي، وتراجع الرقعة الزراعية، تصبح المجموعات التي تعنى بتطوير أنظمة الزراعة الذكية، وتحسين إدارة التربة، واستنباط أصناف نباتية مقاومة للجفاف أولوية ملحّة. 

وفي قطاع الطاقة، تستورد الأردن أكثر من 90% من احتياجاتها من الخارج، ما يستنزف الاقتصاد ويؤكد الحاجة إلى مجموعات بحثية تعنى بتطوير حلول للطاقة المتجددة، مثل الطاقة الشمسية والرياح، وتكامل الشبكات الذكية، وتحليل كفاءة محطات التحويل، وتحسين كفاءة استهلاك الطاقة في القطاعات المختلفة. أما على الصعيد الصحي، فقد كشفت جائحة كورونا هشاشة بعض الجوانب في المنظومة الصحية، وخاصة في الطب الوقائي، وإدارة البيانات الصحية، وتحليل انتشار الأمراض المزمنة كارتفاع ضغط الدم والسكري، حيث تشير الإحصائيات الوطنية إلى أن 1 من كل 3 بالغين يعاني من أحدهما. لذلك تُركز المجموعات البحثية الصحية على تطوير استراتيجيات للوقاية والعلاج، وتحسين نظم الرعاية الصحية، وتعزيز الصحة العامة.

وفي مجال التعليم العالي، يواجه الأردن تحديات نوعية تتعلق بربط مخرجات التعليم بمهارات سوق العمل، مما يتطلب مجموعات بحثية تقدم بحوثًا تحليلية حول الكفاءات المطلوبة للقرن 21، وتقييم فاعلية المناهج وتطويرها، ومدى انفتاحها على المهارات الرقمية والتفكير التحليلي النقدي. كذلك، تُركز المجموعات البحثية الاقتصادية على تقييم سلاسل القيمة في الصناعة الوطنية، وتعزيز الابتكار وريادة الأعمال، ونقل التكنولوجيا، وتطوير استراتيجيات لتحفيز الاقتصاد القائم على المعرفة. 

ومن هنا، تنطلق المجموعات البحثية في الجامعة الأردنية من فهم واقعي للتحديات الوطنية، ساعية إلى المساهمة في إنتاج معرفة قابلة للتطبيق تسند صانعي القرار، وتدعم جهود تطوير السياسات العامة. كما تعمل هذه المجموعات على تعزيز التواصل العلمي مع القطاعات الحكومية والخاصة، على أمل أن تسهم نتائجها في تحسين الأداء القطاعي، وتدريجيًا، في تعزيز موقع الأردن ضمن مؤشرات التنمية والابتكار.