أخبار الأردنية :: الجامعة الاردنية :: عمان :: الأردن د. فايز القيسي
  • 28 - Sep
  • 2023

يسألونك عن الحبيب

قل هو بعض ملح الأرض في بلدي... ومن الذين آمنوا بربهم، ووطنهم وأمتهم فزادهم ربهم إيماناً فوق إيمانهم، منذ أن فاجأ الذين نظروا في المرايا فشاهدوه نحيلاً كالنخيل، ومرهفاً كالسيف، هناك في الجامعة الأردنية، حيث فتحت له فضاء سماوات المعرفة، فارتقى في معارج العلم، والشعر والعطاء.
كنا فتية أتراباً قادمين إلى الأردنية سيدة الجامعات، وكعبة العلماء، ومبتغى الصاعدين إلى معارج المعرفة... كنا نصحو والشمس على ميعاد، ونغادر القرى والمضارب والمخيمات، ونعبر المسالك والدروب كالغرباء، ونطعم الطير لحم أكتافنا.

وكان ظلام المدينة يغتال كل عصافير روح الحبيب، فكل النوافذ مغلقة، والظلام يفح فيفتح للعابثين جروح الحبيب، فتعاطينا معه كؤوس الشكوى، وتجاذبنا حبال البلوى، فكنا نحن وهو من القابضين على جمر الصبر على ما ينفع الناس، في زمن انشغال الآخرين بالزبد.

كان الحبيب، آنذاك، شاعراً يملأ دنيا الجامعة، ويشغل الطلبة والأساتذة، ويضيء شبابيك بنات الجامعة بالقصائد، ويتخذ العشاق من أبياته بيوتاً لهم، ويصير حزنه منارات يهتدي بها الباحثون عن الرؤى والأحلام.

كان الحبيب من كاسرات الطير، التي تحلق فوق دروب الوطن وظل، لكنه لم يغمس يوماً المنقار في عين أحد منا، ولم يأكل لحم أخيه ميتاً .... كان قد هز إلينا، في جمعية اللغة العربية وآدابها، بجذع نخلة الشعر وحب الأرض والشهداء، فاسَّاقط علينا رطباً جنياً، كان يقف باستمرار بقصائده على صدأ نفوسنا، فيدفن سورة الكسل بعينيه وكلماته، ويمد إلينا فجراً من عطاء، وخيطاً من قمح لنزرع حقول الحياة.

كان الحبيب في صباحاته الشعرية يقدم لنا البسمة التي تبعث الدفء في النفوس، كان يسكب الزيت، ويعطينا القناديل لنرى المعاني والدلالات، كنا نلتف حوله كالكواكب في مداراتها، فيمسح بجناحيه بقايا أحلامنا، ويلون مما يحوك الفجر حزن دموعنا، ويمنحنا مفاتيح لنفتِّش في عتمة الليل عن الرؤى والأحلام.
وكان الحبيب في ظهرياته الشعرية يقرأ علينا قصائد غنى فيها لمنازل الأهل، ولوطن الطيبين، الذين لو دعاهم إلى النار جعلوا جمر لظاها سلاما، ولو نخاهم على الثأر فز له الشيخ منهم غلاما، غنى للأرض الأردنية سيدة الشعر والدمع والشهداء. غنى لبناة الوطن، الحاملين على الأكف دماءهم، والمطلعين من صخور الوطن سنابل.

وكان الحبيب في سنوات شكول طوال يلملم أحزانه عن الدرب القديم، حتى تبرعمت عمان في قلبه قرنفلة، فأحب أرضها وسماءها والأولاد، في سكون الليل، وفي همس النسائم، وفي انتعاش الزعفران.

قرأ علينا الحبيب أيام ذاك، قصائد غنى فيها لفتيان الوطن الذين حين صاحت بهم فلسطين، شبوا عن الطوق رجالاً ينفرون خفافاً لنصرتها وثقالاً.

غنى للشهداء الذين كلما سقط منهم واحد شمخ النخل عزة واستطال، إذ كانت أرضنا جرداء حتى ثووا في ثراها، فأينعت خيرا وفاكهة ومياها، وقطفنا الحياة بعد ذاك؛ لأننا عشقنا وطن الشهداء.

غنى أيام ذاك لدم يسيل من الجليل، ولدمعة في جفن غزة كانت قد أحرقت قلب الرمال. وغنى لسليمان خاطر، الذي علم النيل كيف يصير جوادا.
وغنى لصهيل الدم العربي، صهيل دم الفاتحين الذين أضاءوا على البيد والفلوات أهلة. وغنى للبدو الذين يحمسون على النار قهوتهم، فتفتح مسالك النخوة، ودروب الرجولة أمام العابرين إلى المجد
وغنى لفراس العجلوني الذي حل على الرمل نسراً قتيلاً، وخبأ في قلبه برتقال أريحا، فغدا ممراً في دروب الجنود الصاعدين إلى السماء، ونثر طيباً على الضفتين، وغاراً يضفر شعر البلاد.
أخبرنا الحبيب يوم ذاك أنه كانت له في بداياته كتابات مزقها أبوه، ولم تكن شعراً تماماً، إنما كانت دمعا مقفى. كان دائماً يذكرني بالفتى الأندلسي الذي أوتي قول الشعر صبيا، كان يسهر الليل، يشتغل بالأدب الذي انتزعه مما حوله، لكن صدى كلمات والده ظل يؤرقه:» يا بني نحن فقراء ولا طاقة لنا بثمن الزيت الذي تسهر عليه  ضاقت عليه الدنيا بما وسعت، كبر الصدى، أصبح زلزالاً، فجر قصيدة، في تمجيد أحداث مهمة. أطلق له ولي الأمر ثلاثمائة درهم، حملها الفتى الشاعر إلى والده، وهو في دكانه، مكب على حرفته، ألقاها بين يديه قائلاً: خذها فاشتر بها زيتاً.
لم يكن الحبيب ينسج الشعر مفتعلا، أو معادا، فكان شعره، ليس قولا موزونا، وليس قولا مقفى، وليس صورة يعصرها من الكلام، أو عبارة بهية، بل كان طائرا ما جرب التحليق إلا في سماء الحب والحرية، كانت قصائده في الزمن الرديء تقاتل في سبيل الوطن، لأن من حق القصائد أن تقاتل عندما يتخاذل الفرسان، وعليها أن تعز الأرض إن ذلوا أو هانوا....

إنا أحببناه، ومضينا به، وكنا نَرى بِجَميل الظَنّ ما هو منشد حتى إذا قال شعراً أصبحنا مِن رُواته، وكنا نحني ضلوعنا على بعض ما في أشعاره، حتى لا تمحوها نهارات المدينة، ومصاعب الحياة، وكنا قد تخلينا عن الأنساب، وانتسبنا إلى الآداب، ثم فرقتنا الأيام أيدي سبأ، وجمعتنا صداقته لنا، فكان وظل دائماً البعيد القريب، والقريب البعيد.

حبيب الله، سلام عليك يوم ولدت، ويوم تبوأت سنام الشعر، ويوم رفعت إلى السماء، ويوم تبعث حياً، وستبقى تتجدد بك أيام الوطن مزهوة، لأن لنا في دواوينك سيوف عزٍّ، ورايات، وفرساناً، وخيلاً، ونَخْلاً يُطاوًلُ كُلَّ نَخْلْ.
حبيب الله، إن أشرعة الكلمات تخذلني، فأرجو أن تقبل اعتذاري.


د. فايز القيسي​