أخبار الجامعة الأردنية - المسطّح الأخضر "دفترُ أحوال" حَكايا ومواقفُ وذكرياتٌ يُعيدُها للأذهان دفءُ المكان
  • 27 - Mar
  • 2025

المسطّح الأخضر "دفترُ أحوال" حَكايا ومواقفُ وذكرياتٌ يُعيدُها للأذهان دفءُ المكان


فادية العتيبي-  في المنتصف الغربي من الحرم الجامعيّ، وعلى بُعد عشراتِ الأمتار فقط من برجِ السّاعة باتّجاه الجنوب، ومرورًا بشارع السّرو، تجدُه هناك، يفترش الأرضَ ثوبٌ أخضرُ يُزركِشُ المكان، على مدخله ومِن حولِه تعلو الأشجار، تُحاذيه مبانٍ وثّقَت جدرانُها جوانبَ مهمّة من تاريخ المكان.

تحدّق في أركانه، تَهيم بين قسماته لبساطةِ تفصيلاتِه، تأسرُك سحائبُ الضّجيج والضّحكاتِ المتعالية من أُناسه وروّاده المتنعّمين بأجوائه، وهم ينتشرون في مختلِف أرجائه، منهم من حطّ رِحالَه فيه منذ ساعاتِ الصّباح الباكر، وحفيفُ الأشجار يُحيطُ به، ليردِّد الأذكار ويقرأ آياتٍ من القرآن، ومنهم من يرغب في الاستئناس رِفقةَ أصحابه وزملائه؛ فيتبادلُ معهم ما في جَعبته من قصصٍ ومواقفَ وذكرياتٍ استوقفَت يومَه، ومنهم من ارتأى في ساعاتِ المساء أن يَنعم بهدوئه وسط عِطر زهره وعبق رَيحانه، ويستذكرَ حَكايا أعادَها للأذهان صمتُ هذا المكان.

لوحاتٌ فنّيّة ملوّنة في تشكيلها، مُتحرّكة في تفاصيلها، متراصَّةٌ جنبًا إلى جنب؛ مفعمةٌ بالحياة، يُخيَّل لك أنّك شاهدتَها مِرارًا وتَكرارًا، تدفعُك لأنْ تتوقفَ بُرهةً مِن الزّمن، لتتذكّر كلماتِ الشّاعرة الدّكتورة مها العتوم في قصيدَتِها (مَلِك وجامعة) التي رأت النّور على هيئةِ "مَغناةٍ" في احتفاليّة الجامعة الأردنيّة في عيد ميلاد جلالة الملك عبد اللّه الثّاني ابن الحسين المعظّم قبل أشهُر، وأدّتها الفنّانة نداء شرارة، وقد ورد ذكرُه في الأبيات: "هي في كلّ ركن منك قصّة حالِم ... يروي حكايةَ طالب ومعلِّم، وعلى مسطّحها توقَّفَ عابر ... فاخضرَّ من عشبٍ شهيّ المبسم" واصفةً بحروفها أبجديّاتِ المشهدِ كاملًا.

بمحاذاته يقع أحد مرافق الجامعة المميّزة؛ دائرة خدمات الغذاء والتّغذية، أو ما هو متعارَف عليه (بمطعم الجامعة) الكبيرِ بشهرته، والمميّزِ بخِدماته وبأشهى أكلاته، ولا بدّ لأيّ قاصد أو عابر للمكان أن يتوقّف عندَه، ويتذوق مختلِف أصنافِ أطعمتِه، بأسعارٍ رمزيّة.

ورُغم وَفرة الأماكن التي نمرُّ بها والمنتشرةِ في شتّى أرجاء الحرم الجامعيّ، والتي قد تفوقُه جمالًا وطبيعةً وتنظيمًا، لكن يظلُّ "المسطّح الأخضرُ" المكانَ الأجملَ في الجامعة الأردنيّة من وجهة نظر البعض، والمتربِّعَ على عرشِ القلوب، والسّببُ على حدّ قولهم؛ أنّ لهذا المكان خُصوصيّة قد تكونُ في ارتباط الأشخاص به فمَهما فارقوه عادوا إليه من جديد ليجدوه بكامل طلّته وعلى عادته، وقد تكون في ارتباطِه بالذّكريات التي حصلَت فيه وظلَّت قابعةً في النّفوس، ويتولَّدُ الحنينُ إليها بمجرّدِ أن تتراءى أمامَ عينيك، فتتداعى الصّور والكلمات والمواقف إلى الأذهان، وتُعيد من جديد دفءَ مكانٍ لا يزال يحيا في الوِجدان.

ومع تعاقب السّنين ومرور الأيّام، أضحى المسطّح الأخضر جزءًا لا يتجزّأ من هُويّة الجامعة الأردنيّة، ومَعلمًا بارزًا يَشهدُ إقبالًا لافتًا من قِبَل مُرتاديه من طلبة الجامعة طيلةَ أوقات الدّوام الرّسميّ، وعلى امتداد أشهُر السّنة، وحتّى في أوقاتِ العُطَل، ويتّخذ له مكانًا لدى البعض ضمن قائمة المواقع التي يُفاخرون باصطحاب أصدقائهم وضيوفهم إليها، كما يُقام على أرض المسطّح الأخضر الكثير من النّشاطات التي تنفّذها مختلِف كلّيّات ووِحدات ومراكز الجامعة والهيئات الطّلابيّة، مثلِ تنظيم البازاراتِ الخيريّة، والمعارِض، وحفلاتِ الاستقبال والتّكريم لضيوف الجامعة ولزوّارها من داخل الأردنّ و خارجه، والمشاركين في الفعّاليّات التي تُعقَد داخل الحرم الجامعيّ من مؤتمرات وندوات، وذلك بالتّعاون مع دائرة المطاعم. 

وفي شهر الصّيام، يحلو المكان أكثر فأكثر، ويزداد زَهوًا وبهاءً، ليس لجمال تضاريسه وتكويناته فقط، بل بمن زيّنوه من أُناسٍ اعتادوا على الجلوس فيه ليتبادلوا أطرافَ الحديث مع زملائهم، أو لمذاكرة دروسهم، أو لقراءة الأذكار وختم القرآن، أو لتناول إفطارهم بعد صيام يوم طويل، وسط أجواء رَوحانيّة تبعثُ بشذى الإيمان.

وبين هذا وذاك فإنّ لكلّ واحد منهم أسبابًا جعلته يعشقُ المكان، ويحرِص على الاستمتاع بأجواء المكان حصرًا في رمضانَ، ولدى سؤال البعض لماذا هذا المكان تحديدًا؟ كانت الرّدود متنوِّعةً وعديدة، ومجتمعةً على مبدأ واحد هو حُبّ المكان، وشغفُ الجلوس فيه والاستمتاع بأجوائه.

"محمّد" الطّالب في  السّنة الدّراسيّة الثّانية في كُلّيّة الأعمال، قال عن سبب وُجودِه في المسطّح الأخضر رفقةَ صديقه: إنّه اعتادَ ومُنذ أنْ كان في السّنة الدّراسيّة الأولى الجلوسَ في المسطّح الأخضر في أوقات فراغه، لإنجاز بعض واجباته الدّراسيّة المطلوبة منه، لِحِينِ موعدِ المُحاضرة القادمة، مؤكِّدًا أنّ الأجواء النّقيّة التي تغلِّف المكان، تدفعه للتّركيز ولسرعة الإنجاز، حتّى ارتبط أمرُ دراسته بهذا المكان دونًا عن باقي الأماكن، حتّى أنّ هذا بات من المعروفِ عنه، وفي حال تعذّر على أصدقائه التّواصل معه هاتفيًّا، فإنّهم يجدونه جالسًا فيه. 

أمّا "عبد الرحمن" وهو طالب ماليزيّ ويدرس في كلّيّة الشّريعة، قال: إنّ "المسطّح الأخضر" من الأماكن التي أهوى ارتيادها، ففيه تعرّفتُ على كثيرٍ من طلبة الشّعوب الإسلاميّة -الذين هم أيضًا من روّاده- في كثير من الإفطارات الرّمضانيّة التي تُقام في مطعم الجامعة، وحلقاتِ الذّكر التي تُنظَّم على هامشها، حيث كُنّا نفضِّلُ أنْ نأخُذ طعامنا ونجلِس على العشب الأخضر بعد أداء صلاة المغرب جماعةً، مستمتعين بطعامنا، وبالحديث الذي كان يدور بيننا.

"سامر" الطّالب في كُلّيّة الآداب، والذي كان يجلس رفقةَ أصدقائه، يقضون الوقت بلعب "ورق الشَّدة" قال: إنّه يشعُر كما لو أنّه في نُزهة حين يجلس وأصدقاءَه في المسطّح الأخضر، فالطّبيعةُ التي من حولِه من أشجار وعشب وزقزقة العصافير، وأصواتُ ضحِك الطّلبة من حولِه، تُغيّر من نفسيّته إيجابًا، وكأنّها تشحنُه بمزيد من الطّاقة لمواصلة باقي محاضراته بنشاط ومثابرة.

و"عاطف" خريج الجامعة الأردنيّة الذي قرّر في أحد أيّام الشّهر الفضيل زيارةَ أخيه "عامر" الطالبِ في السّنة الأولى في كُلّيّة العلوم، فالتَقَينا به  في المسطّح الأخضر، وحَدّثَنا عن سبب جلوسه في هذا المكان، منتظِرًا موعد أذانِ المغرب وتناولِ طعام الإفطار، حيث قال: "إنّ هذا المكان لا يسقُط من ذاكرته أبدًا منذ كان طالبًا يدرس على مقاعد الدّراسة في الجامعة الأردنيّة وحتّى هذا اليوم، أي بعد مرور ما يزيد على ستّة سنوات".

وأضاف: دارَ في خَلَدي أنْ أتناولَ طعام الإفطار بمعيّة أخي الذي يصغُرني، والذي في حقيقة الأمر لا يعرف المسطّح الأخضر كثيرًا ولا يدري إن كان يمكن للطّلبة ولزوّار الجامعة تناولُ الإفطار هنا، وبالفعل قرّرتُ اصطحابه للمسطّح الأخضر وقد أبدى ارتياحه في المكان وإعجابه بالطّبيعة، وللطّقوس الرّمضانيّة من حولِه، أمّا بالنّسبة لي فقد استرجَعتُ أجمل الذّكريات التي جمعتني بأصدقائي في تلك الأيّام.

في حين قرّرَت (سماح) الطّالبة في السّنة الأخيرة في كلّيّة الطّبّ أن تستغلّ جُلّ وقت فراغها في الجلوسِ في المسطّح الأخضر، وتناولِ معظمِ إفطاراتِها الرّمضانيّة فيه، مبرّرةً ذلك بتخرُّجِها بعد أشهُرٍ قليلة، وأنّها من الممكن ألّا تتمكنَ بعدها من العودة للمسطّح الأخضر، لذلك قرّرَت أن يكونَ المسطّحُ الأخضر أكثرَ الأماكنِ المحفورةِ في ذاكرتها في أخر أيّام الدّراسة.

مهما طال الزّمن يبقى للمكان جاذبيَّتُه التي تشدُّنا نحوه، وتدفعنا للعودةِ إليه، والسّيرِ في أركانه، والاستمتاعِ بمناظره التي ألِفناها وحُفِرت في أعماقنا، كما هي الحال مع "المسطّح الأخضر" الذي مهما فارقتَه ستعود حتمًا لزيارته، والجلوسِ بين أحضانه.

جدير أن يُذكَر أنّ الأماكنَ كالأفراد؛ تحتاج للرّعاية والاهتمام لتظلّ محافِظةً على رونقها وسحر جمالها، لتؤدّي مهامها على أكمل وَجه، لذا تُبدي الجامعة الأردنيّة حِرصًا بالِغًا في الحِفاظ على البيئة الخضراء للجامعة والعمل على استدامتها، ومنها المسطّح الأخضر الذي بدأ مشروعُ إعادة تصميمه وتطويره مطلع العام 2019، والانتهاء منه وافتتاحه رسميًّا من قِبَل رئيس الجامعة الدّكتور نذير عبيدات في شهر نوفمبر من عام 2021، وقد جاءت فكرة إعادة تطويره بعد دراسة لواقع الحال القديم له، وتحديد احتياجات الجامعة والطّلبة الوظيفيّة والجماليّة له، من خلال إضافة نظام لتصريف المياه يَحُول دون تجمُّعها على أرضيّة النّجيل، واستحداث نظام ريٍّ ذكيّ، ونظام إنارة جديد، ومسطّحٍ من النَّجيل تُقدَّر مساحته بـ١١٠٠ مترٍ مربّع.